اقترن ظهور الأخبار الزائفة ببداية التواصل البشري، منذ آلاف العصور، واختلفت طرق توظيفها، باختلاف الأهداف التي يسعى مروجوها لنيلها، بيد أنّها ارتبطت أساسا بالسياسية والحكّام والأباطرة الذين يعتمدون القصص الملفقة والمتناقلة من جيل إلى جيل، كأداة أساسية في حربهم ضدّ خصومهم لضمان أطول فترة حكم ممكنة ولتشويه أعدائهم.
وبتطور الطباعة ومن بعدها وسائل الاتصال وشبكات التواصل الاجتماعي، بات انتشار الأخبار الزائفة والمضللة أكثر سهولة، حتى أنّ بعض الصحف في الولايات المتحدة الأمريكية، في القرن التاسع عشر، كانت تنشر قصصا ملفقة أو مبالغا فيها لزيادة عدد مبيعاتها، في ما يعرف بـ "عصر الصحافة الصفراء".
وشيئا فشيئا بدأت المجتمعات تتحسّس مدى خطورة هذه الأخبار وانعكاساتها، فلطالما أثّرت الأكاذيب والمغالطات على السياسات العامة والقرارات والانتخابات وأثارت العنف والفتن وأضرّت بالاقتصاد في حالات كثيرة، ولعلّ ذلك يبدوا جليا أثناء الحملات الانتخابية وأثناء جائحة كورونا وعند ظهور اللقاحات وزمن الاضطرابات السياسية والتهديدات الإرهابية وغيرها من الأحداث.
خطورة الأخبار الزائفة لم تتوقف عند هذا الحد، وإنّما شملت مجال الصحافة، إذ زعزع تشويه الحقائق ونشر المغالطات والتعتيم في بعض القنوات والصحف والمنصات، ثقة الجمهور في كل وسائل الإعلام السمعية والمكتوبة والمرئية والإلكترونية، خاصة وأنّ فرص انتشار الأخبار الكاذبة تتجاوز الـ 70 بالمائة مقارنة بالأخبار الصحيحة، وفقا لدراسة نُشرت سنة 2018، أنجزها باحثون أمريكيون من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، بشأن ظاهرة انتشار الأخبار والمحتويات الزائفة عبر التغريدات على موقع التواصل الاجتماعي تويتر.
وعلى الرغم من أنّ جلّ الأخبار الكاذبة التي تنتشر بسرعة تبدو في ظاهرها بسيطة وأقرب إلى الحقيقة باعتبار أنّها تعتمد أساسا على الإثارة والعواطف والتهويل، ما يجعل مشاركتها أمرا ممتعا ومتواترا سواء شفهيا أو على شبكات التواصل الاجتماعي، إلاّ أنّ مروجيها يهدفون أساسا إلى زيادة أرباحهم الماديّة، بغاية جذب أكبر عدد من الزيارات في المواقع الإلكترونية وبالتالي استدراج المستشهرين وزيادة عدد الإعلانات.
وتهدف هذه الأخبار الكاذبة أيضا إلى التأثير السياسي وتوجيه الرأي العام، ومهاجمة الخصوم السياسيين وتشويههم لدى عامة الناس، وتسعى في أحيان أخرى إلى نشر الخوف والبلبلة والارتباك في المجتمع وحشد الجماهير حول أجندات معينة خدمة لأغراض مخفية.
كل ذلك دفع الباحثين في مجال علوم الإعلام والاتصال والمهنيين إلى الإقرار بضرورة تطوير آليات العمل الصحفي ووضع أطر وأساليب خاصة لمكافحة هذه الظاهرة.
ولئن كانت محاولات التحقق في الأخبار والحرص على عامل الدقة والمصداقية، من أساسيات العمل الصحفي منذ ظهوره، إلاّ أنّ التركيز على صحافة التحرّي في السنوات الأخيرة، خاصة في ظل السياقات والأحداث الجديدة التي يشهدها العالم، أصبح من أولويات المنظمات الدولية وبعض وسائل الإعلام التي تخصصت في مجال التحري، بالإضافة إلى أنّ بعض المؤسسات الإعلامية التقليدية خصصت بدورها أقساما لرصد الأخبار الزائفة والتحقق فيها بشتّى الطرق، وعلى مستوى التكوين الأكاديمي فإنّ الصحفيين يخضعون لدورات تدريبية دورية في المجال وفي آليات التحري الحديثة ناهيك عن أنّ معاهد الإعلام والصحافة والاتصال باتت تدرج هذه المادة ضمن برامج المواد التي يتلقاها الطلبة.
ويحرص المهتمون بمجال التحري، على نشر الوعي بخطورة الأخبار الزائفة وتكوين المواطنين المنخرطين ضمن نوادي صحافة المواطنة وغيرهم على التفطن إلى هذه الأخبار، بالإضافة إلى تأطير التلاميذ في إطار تبني بيداغوجية التربية على وسائل الإعلام.
مسؤولية تفنيد الأخبار الزائفة ومحاربتها لم تقتصر على الصحفيين وعلى نشر الوعي بخطورتها فحسب، وإنّما سعت شبكات التواصل الاجتماعي، بصفتها المتهم الأوّل في توسّع تأثير هذه الظاهرة، إلى تطوير مبادرات للتحقق من التدوينات والأخبار وسعت بعض الحكومات ومنظمات الأمن الدولي إلى الحد من هذه الظاهرة في إطار شراكات دولية وعمدت بعض الدول إلى سنّ قوانين لمكافحة الأخبار الزائفة رغم أنّ بعضها كان منقوصا وحدّ في أحيان كثيرة من حرية التعبير ولاقى انتقادات عدّة كالمرسوم عدد 54 في تونس.
التكنولوجيا الحديثة بدورها عاضدت جهود كل هذه الأطراف وطورت آليات للمساعدة في التحري في صحة الأخبار والفيديوهات والصور، كتقنية Tineye والبحث العكسي في محرك غوغل للصور وغيرها من الآليات الأخرى، رغم أنّها ساهمت لعقود في تطوير آليات لتزييف الحقائق، لعلّ آخرها التزييف العميق Deep Fake.
وعموما، فإنّ محاربة الأخبار الزائفة من شأنه أن يعلي من قيمة الحقيقة، باعتبارها جوهر العمل الصحفي الذي يقوم على البحث الدائم عنها. ومن شأنه أيضا أن يحمي المجتمع من الفتن ومن كل أشكال التحريض والعنف والكراهية والتضليل والخداع مما يضمن إفشال الترويج لأجندات أو أفكار خاصة، بالإضافة إلى أنّه عامل أساسي في تعزيز الديمقراطية والحفاظ على التنافس السلمي في الحياة السياسية وحماية الاقتصاد، ناهيك عن تطوير قطاع الإعلام وخلق روابط جديدة مع الجمهور قوامها الثقة والوعي والمصداقية، بيد أنّ محاربة الأخبار الزائفة اليوم، هو تحدّ مستمر ومسؤولية تتطلب تضافر كل الجهود وكل الأطراف، من أجل ضمان حق الوصول إلى معلومات دقيقة وموثوقة.
آمنة السلطاني